تشير مختلف الدراسات والتقارير إلى أن العنف القائم على النوع الاجتماعي هو واحد من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعا وانتشارا في العالم، وهو لا يعرف حدودا اجتماعية أو اقتصادية أو وطنية. ومع أنه يقوّض صحة الناجيات وكرامتهن وأمنهن واستقلاليّتهن، إلا أنه ما يزال محاطاً بثقافة الصمت، وتدعمه معايير وموروثات ثقافية إمّا تؤازره أو تبرّره أو تقلّل من شأنه باعتباره ظاهرة عادية ومألوفة في العلاقات بين الرجال والنساء.
وتشير البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالميّة لعام 2021 إلى وجود حوالي امرأة من بين كل ثلاث نساء، أو ما يقارب من 736 مليون امرأة وفتاة حول العالم، قد تعرّضن للعنف من قبل الشريك الحميم، أو العنف الجنسي من غير الشريك، أو كليهما، مرّة واحدة على الأقل في حياتهن.
وفي حين تتوفر إحصائيات وبيانات عن العنف المسلّط على النساء بشكل عام، فإن النساء ذوات الإعاقة السمعية والبصرية يعتبرن غائبات عن مختلف المؤشرات، والحال أنّهن الأكثر تعرضا لمختلف أشكال العنف. ولفتت جائحة كورونا إلى هذا النقص في الإحصاءات في الوقت الذي تبين فيه كيف أن مظاهر وأشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي قد تضاعفت خلال فترات الإغلاق بشكل مقلق وتوسعت دائرته ليشمل فئات نسائية عديدة أوّلها ذوات الإعاقة.
ولأنه دأب على مواكبة مختلف التطورات والتغيّرات المتصلة بقضايا وحقوق النساء، وصلب اهتمامه بموضوع العنف القائم على النوع الاجتماعي، وتنفيذه لأكثر من مشروع حوله، لم يكن مركز "كوثر" ليغفل عن ضرورة الاهتمام بمسألة العنف المسلّط على النساء ذوات الإعاقة السمعية والبصرية. ترجم هذا الاهتمام في مشروع "حتى يصبح اللامرئي مرئيا" الذي انطلق تنفيذه في تونس سنة 2021، بهدف مناهضة العنف المسلّط على النساء والفتيات من ذوات الإعاقة الحسية في المجالين الخاص والعام.
تضمّن المشروع أهدافا طموحة عمليّة وقابلة للتحقيق، تمثلت في الدفاع عن حقوق النساء والفتيات ذوات الإعاقة الحسيّة بهدف ضمان تلبية احتياجاتهن، وتعزيز مشاركتهن بشكل أفضل في الحياة العامّة بما في ذلك الوصول إلى الخدمات المحلية، والرعاية الملائمة للناجيات من العنف.
مكونات المشروع:
لقد تم تنفيذ المشروع باعتماد منهجية تشاركيّة جمعت المستفيدات بشكل مباشر وهن النساء والفتيات ذوات الإعاقة السمعية والبصرية، إضافة إلى عدد من الشركاء والمستفيدين مثل: الجمعيات المتخصّصة في مجال الإعاقة والدوائر الحكومية والسّلط التشريعية ومراكز الاستماع وإيواء النساء النّاجيات من العنف ووسائل الإعلام.
من بين أبرز مكوّنات المشروع الدراسة النوعيّة التي تم إنجازها بالاعتماد على المقابلات ومجموعات التركيز مع أطراف متنوّعة، للبحث في مسألة العنف المسلّط على النساء والفتيات ذوات الإعاقة السمعية والبصرية. تعدّ الدراسة الأولى من نوعها في تونس وفي المنطقة العربية، وقد جاءت لتسدّ فجوة معرفية كبيرة بخصوص البحث في الموضوع.
وقد كشفت هذه الدراسة عن أشكال العنف المسلّط على هذه الفئة في المجالين الخاص والعام وتأثيرها في بناء الذات وفي العلاقة مع الآخر، وتناولت بالبحث أهم الصعوبات والعراقيل التي تحول دون اندماجهن الاجتماعي والاقتصادي، والتي ترتبط بالتعليم والعمل والصحّة والوصول إلى الخدمات والتمتّع بالحقوق. كما قدّمت جملة من التوصيات من أجل تعزيز الاندماج الكامل لذوات الإعاقة السمعية والبصرية في مختلف المجالات.
وتشير تقديرات المعهد الوطني للإحصاء في تونس إلى أن 2.2 بالمائة من السكان هم من ذوي وذوات الإعاقة، يتوزعون بين صعوبات خفيفة بنسبة 44.3 بالمائة وصعوبات كبيرة بنسبة 37.2 بالمائة وإعاقة عميقة بنسبة 18.5 بالمائة. وتمثل النساء 49.39 بالمائة والرجال 50.61 من مجمل ذوي الإعاقة في تونس. وتمثل الإعاقة البصرية 29 بالمائة والإعاقة السمعية 6 بالمائة وتقدر نسبة الإعاقات المتعددة 32 بالمائة من مجموع الأشخاص ذوي وذوات الإعاقة.
استراتيجيّة مناصرة و3 ورقات سياسات بشأن القضايا ذات الأولوية للنساء ذوات الإعاقة السمعية والبصرية تم بلورتها استنادا إلى نتائج الدراسة النوعية وأهم استخلاصاتها. وقد تم إعداد الاستراتيجية وورقات السياسات بالتعاون مع كل من صندوق الأمم المتحدة للسكان ومنظمة "إنسانية وإدماج" والمنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وقد تم عرضها ومناقشتها على الأطراف المعنيّة بها وهي وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، جامعة المنار والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.
تم بعث تحالف جمعياتي " ما تتجاهلنيش وأقرا حسابي" يضمّ 11 طرفا منها مركز "كوثر".
تتوجه ورقة السياسات الأولى إلى المجالس المحلية والمجالس الجهوية والمجلس الوطني للجهات والأقاليم بهدف إدماج حقوق ذوي وذوات الإعاقة السمعية والبصرية في منوال التنمية. وتتوجه ورشة السياسات الثانية إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من أجل تعبئة جهود مختلف الجهات الفاعلة لتعزيز لغة الإشارات ونشرها، وذلك من خلال فتح المجال للتفكير المشترك بين مختلف القطاعات لوضع سياسة عامّة واضحة للنهوض بلغة الإشارات والاعتراف بها. فيما تتوجه ورقة السياسات الثالثة إلى وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن بتونس في اتجاه إدماج ذوات الإعاقة في منظومة الحماية من العنف والتعهد بالضحايا.
انعقدت في إطار المشروع دورات تدريبية لبناء القدرات في مجالات: تعزيز المعارف بالحقوق والآليّات التشريعية المتاحة (حول القانون عدد 58 لمناهضة العنف لسنة 2017 وحقوق ذوي وذوات الإعاقة في القانون عد 83 لسنة 2005)، الاستقلالية الرقميّة عبر استخدام التكنولوجيا الحديثة، وطرق الإحاطة والمرافقة والرعاية لضحايا العنف، والمعالجة الإعلامية لقضايا النساء ذوات الإعاقة السمعية والبصرية… وقد استهدفت هذه الدورات النساء والفتيات، والعاملات في مراكز الاستماع ومراكز الإيواء للنساء ضحايا العنف وللجمعيات المتخصّصة ومترجمي ومترجمات لغة الإشارات ووسائل الإعلام. كما تم تصميم دليل تدريبي حول مهارات الإحاطة بالنساء ذوات الإعاقة الحسية لفائدة مراكز الاستماع والإيواء.
على الرغم من وجود عدد مهم من مراكز إيواء النساء ضحايا العنف في مختلف مناطق الجمهورية التونسية، لا تتيح هذه الفضاءات استقبال النساء والفتيات ذوات الإعاقة البصرية. ولم يتسنى لهذه المراكز خلال جائحة كورونا استقبال هؤلاء النساء اللاتي يحتجن إلى فضاءات تتلاءم مع إعاقتهن البصرية. لذلك كان من ضمن مكوّنات المشروع تهيئة مركزي إيواء ليكونا قادرين على استقبال ذوات الإعاقة البصرية. وتم القيام بذلك بالشّراكة مع وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن وجمعية "تامس" و"الاتحاد الدولي للمكفوفين". وتعد عملية التهيئة تجربة نموذجية لا بد من تعميمها في باقي المراكز لضمان وصول النساء ذوات الإعاقة البصرية إلى مختلف الخدمات المتاحة لهن.
على امتداد تنفيذ المشروع، نفّذت ثلاث حملات إعلامية للتوعية بضرورة مناهضة العنف المسلط على النساء والفتيات ذوات الإعاقة الحسيّة، عبر الإبلاغ عنه والتنديد به. وقد قاد مركز "كوثر" هذه الحملات على حساباته الرسمية على مواقع التّواصل الاجتماعي وفي تسع محطات إذاعية عمومية وخاصة، وطنية ومحلية وجمعياتية. وقد تزامنت هذه الحملات مع إحياء 16 يوما نشاطا لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي واليوم العالمي للإعاقة واليوم العالمي للإعاقات المتعدّدة. وقد انخرط في هذه الحملات مجموعة واسعة من الشركاء. وقد هدفت هذه الحملات إلى جعل قضايا الإعاقة موضع شأن عام، وتشجيع الحديث عنه وتناوله في وسائل الإعلام والدّعوة إلى الانخراط في نشر ثقافة داعمة لحقوق الأشخاص ذوي وذوات الإعاقة.
إيمانا منه بما يمكن أن تتيحه الرّقمنة من تسهيلات في النفاذ إلى المعلومات ونشرها وتقاسمها، قام مركز "كوثر" بترجمة نصوص قانونية بالصّوت والصورة بلغة الإشارات، تم وضعها على المنظومة القانونية الإلكترونية لدعم حقوق المرأة والطفل في تونس "ورقتي". كما قام أيضا باستحداث أقسام جديدة في النّشرة الإخبارية الصوتية "ديما معانا" بالشراكة مع جمعيتي "إبصار" و"صوت الأصم" بتونس. تقدم النشرة الصوتية معلومات عن مختلف المسائل التي تهم ذوات وذوي الإعاقة.(/https://wrcati.cawtar.org)
تمكّن مركز "كوثر كذلك من ملاءمة تطبيقة "سايفناس" الخاصة بالوقاية من العنف المسلط على النساء في الأماكن العامة، كي تكون متاحة لفائدة ذوات الإعاقة البصرية ويعمل كذلك على تطوير أداة ذكية تتصل بالتطبيقة بديلة للهاتف الجوال.